النقّارة… صوت الأرض وروح المسار في وجدان المسيرية

حوازم مقدم

في السهول الواسعة التي تغسلها شمس كردفان، حيث تمتد مضارب قبيلة المسيرية وتتماوج بيوتها التي تعرف باسم (ام كدندن) مع نسيم البراح، لا تزال النقارة تُضرب، لا طربًا فقط، بل إحياءً لروح، وصونًا لتراث، وتجديدًا لعهد لا ينقطع.

إنها ليست طبلةً تُقرع وحسب، بل صوتٌ ينطق بلغات لا تُكتب، بل تُحَس… وذاكرة جماعية تحفظ الحكاية دون أن تُقال. في ضرباتها تاريخُ قومٍ قاوموا النسيان، وساروا خلف المراعي والكرامة، متمسكين بجذورهم، وبتلك الدقات التي تهز الأرض والمعنى.

لكل نغمة من نغمات النقارة قصدٌ ورسالة، تُفهم دون أن تُشرح، وتُترجم دون مترجم. إنها لغة متكاملة، يعرفها كل من وُلد ونشأ في “الفريق”، ويتفاعل معها الجميع، من الإنسان إلى الحيوان.

حين تدق نقارة وقت الرحيل، يعرف الناس أن المسار قد حان. تُعلنها النغمة، لا الكلمات: استعدوا… البراح يناديكم.

وعندما تُضرب وقت النزل، يشعر الجميع بالأمان. فقد وصلت القافلة، وحان وقت الاستقرار، وإعادة ترتيب الحياة.

أما (جن جن) ، فهي من أجمل نغمات النقارة، تُقرع عندما يعود من خرج يبحث عن بهائم ضاعت. يسمعها من بعيد، ويبتسم… فهو يعرف أنها له، وأن القلوب انتظرته.

في الماضي، كانت هناك نقارة الحرب، تُدق لنجدة، أو رد عدوان واليوم، لم تعد تُسمع كثيرًا، لكنها باقية في ذاكرة الشيوخ، كنداءٍ للكرامة إذا ناداها الزمن من جديد.

في أفراح المسيرية، لا تكتمل الزغاريد دون ضربات النقارة، فهي من تُشعل الأرض، وتدعو القرى المجاورة للفرح.

وفي الحزن، أو لحظات التوهان، أو الفزع، ترتفع أصوات النقارة برسائل استنفار، تُفهم فورًا، وتوقظ النخوة في القلوب.

حتى الماشية نفسها، كما تقول الحكايات، تعود إلى مرعاها عندما تسمع ضربات النقارة، فقد تربّت على أنغامها، وميزت دقاتها منذ ولادتها.

“ضربة خشوم البيوت”…” نقاقير” تحكي المجد والقصص

من أروع ما يُميز تراث المسيرية أن لكل بيت، أو فخذ من القبيلة، نقارته الخاصة. هذه الضربات ليست مجرد نغمات، بل هُوية تُعرف بها البيوت، وتحمل أسماء تخلد المواقف.

بعض منها:

(كي ضر)

(جانقي جل)

(حدية كر)

(شينات لمن جن)

(وزين رف)

لكل ضربة قصة، ولكل اسم مناسبة. بعضها يُحكى في المجالس باعتزاز، وبعضها يُروى للضحك، ولكن جميعها تُحفظ في الذاكرة، مثل النقش على الحجر.

في زمن تغيّرت فيه الأصوات وتبدلت العادات، بقيت النقارة شامخة، لا تطلب إلا من يُحسن سماعها. لأن المسيرية لا ينسون، ولا يتنازلون عن جذورهم، فالنقارة عندهم ليست أداةً إيقاعية، بل دفتر قبلي، وشفرة شرف، وراية لا تُطوى.

إنها حارسة الذاكرة، وقصيدة يُنشدها الخشب حين تفيض الروح.

التحية لكل من ظل وفيًا لصوت النقارة، ولكل من يرى في دقاتها كرامةً تُضرب، لا تُكتب.

النقارة ليست مجرد طبل، بل وجدان أمة. صوتٌ يُبقي المسيرية في حضن تاريخهم، ويمنحهم سلاحًا من المعاني، لا يُصنع في المعامل، بل يُولد مع أول صرخة في البراح.

هكذا تُحكى قصة قبيلة، وهكذا تُصان الكرامة… بنغمةٍ من الخشب، ولكن بروح لا تنكسر.

مسيرية وافتخر

وافر الاحترام والتقدير

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.