حوازم مقدم
في أعقاب المقال الذي تناول التحديات المصيرية بكردفان الكبرى، تلقيت اتصالات هاتفية مباشرة من أبناء جبال النوبة، خاصة من (الدلنج )و (كادقلي) حملت بين طياتها أوجاعاً صادقة، ورؤى عميقة تعكس واقعاً معيشياً مؤلماً، وتخوفات مشروعة على المصير والمستقبل. لم تكن تلك الاتصالات شكوى، بل صرخة وعي ونداء مسؤول من قومٍ قدموا أغلى ما يملكون دفاعاً عن تراب الوطن، وينتظرون أن يُرد إليهم بعض من هذا الجميل.
المشهد الاقتصادي في جبال النوبة يُنذر بانفجار إنساني:
السكر الكيلو بـ18 ألف، البصل بـ60 ألف، الذرة بـ16، الزيت نقداً بـ4 آلاف وبنكك بـ8 الف للرطل الواحد
اللحم الضأني تجاوز 40 ألف للكيلو
برميل الماء بـ5 آلاف
الدقيق معدوم، والأدوية معدومة،
والخدمات الصحية في تراجع مستمر.
هذا الواقع ليس مجرد صعوبة معيشية، بل هو انهيار شامل للأمن الغذائي والخدمي.
الطريق القومي الأبيض – كادقلي، الذي ظل شريان الحياة الاقتصادي والاجتماعي لعقود، بات معطلاً بفعل عوامل ميدانية وأمنية معقدة، زادها تعقيداً تنامي نشاط قوات الحركة الشعبية بقيادة الحلو، وتحالفاته المشبوهة مع مليشيا الدعم السريع، التي ساهمت في شلّ الحركة التجارية والمدنية، وإعاقة حياة الناس ومعاشهم.
أبناء النوبة، الذين لم يتأخروا يوماً عن نداء الواجب الوطني، وضربوا أروع الأمثلة في التضحية والانضباط في صفوف القوات المسلحة، يتطلعون اليوم إلى تحركات جدية ومسؤولة من القيادة السياسية والعسكرية. تحركات تبدأ بـ:فتح الطرق وتأمينها، وتطويق أنشطة التمرد والميليشيات
وحصر تمدد قوات الحلو ومناصريه من مليشيا آل دقلو، الذين لا يملكون مشروعاً وطنياً بقدر ما يسعون لتعطيل الاستقرار ونهب الموارد وفرض الأمر الواقع.
أن ما تمرون به لن يطول إن وجدت الإرادة السياسية والرؤية العسكرية الواضحة، وأن جبال النوبة ليست وحدها، بل في قلب كل سوداني حرّ، يعرف من هم رجالها، وما قدموه للوطن من دماء وتضحيات. البلاد تعرف أبطالها، ولا تنسى شهداءها.
حتى اليوم، لم تصل أرقام الجلوس للامتحانات الثانوية لعدد كبير من طلاب كادقلي والدلنج. هذه ليست مجرد عقبة إدارية، بل صفعة مؤلمة لجيلٍ يحاول أن يصنع مستقبله وسط الركام. التعليم لا يُمكن أن يكون ضحية للحرب، وإهدار عام دراسي كامل جريمة وطنية بحق أبناء النوبة وبحق السودان كله.
نحن أمام لحظة فاصلة تتطلب قرارات كبيرة لا مجاملات صغيرة.
إما أن يتم تحريك الدولة بالكامل لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وتأمين الحياة الكريمة لمواطني جبال النوبة، أو أن ننتظر تفككاً اجتماعياً ومعنوياً يصعب ترميمه.
الرهان يجب أن يكون على الإنسان، على المعلم، على الجندي، على المزارع، على الطالب، وعلى المرأة النوبية الصابرة القوية.
هؤلاء لا يريدون صدقات، بل استحقاقات.
هذا المقال، امتداد لما بدأناه في الحديث عن كردفان الكبرى، ليس تأجيجاً للمشاعر، بل توثيق لحقيقة مرة لا يجب أن تُهمل. جبال النوبة اليوم، من الدلنج إلى كادقلي ، تنطق بنداء واضح:
أنقذونا لا بالشعارات بل بالأفعال، لا بالمواساة بل بالقرارات، لا بالحديث بل بالتحرك الفوري.
وما لم تتحرك القيادة اليوم، فغداً قد لا تُتاح الفرصة… ولا يُسمع النداء.
وافر الاحترام والتقدير