عندما إلتقيته لأول مرة، في بهو الفندق الذي أجريت فيه معاينات الإلتحاق بصحيفة «الوطن القطرية»، ظننت أنّه رجل غريب الأطوار، ليس بمقدوره أن يتدبر أمر الخروج من نفق الصحافة الضيق إلى بهو الأدب الفسيح، رغم كل ما يقال عن عبقريته الفذة في ترويض عنف اللغة، والقبض على مفرداتها المتمردة، وتهذيب أفكارها الشاردة، وما إلى ذلك من زفات التطبيل والإطراء، التي ظلت تصاحب كل ما يخطه يراع الرجل – غريب الأطوار – بدءاً من زوايته ذائعة الصيت بصحيفة الوطن «أعطني عينيك»، مروراً بكتابه الأول «بعيون أبرهيد سومسوم»، الذي يتخذ من شخوص قصته وسيلة لتمرير أفكاره، وعكس الصور التي يراها، وكتابه الثاني الذي قام فيه بتجميع مقالاته اليومية لأكثر من ثلاثة عشر عاماً «طق.. توقف الزمبرك!».
الهيلمانة والضجة الكبيرة التي ظلت تثيرها كتابات هاشم كرار، منذ أن وطأت قدماي أرض الدوحة، إستفزتني وجعلتني أطلب منه إحضار نسخ من كتابه الأول والثاني، رغم كل ما يدور في رأسي من ظنون بأنه لا يفقه شيئاً في الأدب، وبالفعل أحضر لي بعد يومين أو ثلاثة نسخة من الكتابين ممهورة بتوقيعه وعليها عبارة: «تأملني قليلاً صاحبي الفرجابي»، رددت عليه في سري سوف أتاملك كثيراً يا صديقي، وبدأت رحلتي مع الإندهاش في عوالم – الرجل غريب الأطوار – من الصفحة الأولى في كتابه «بعيون أبرهيد سومسوم»، عندما وقعت عيناي على الإهداء: إليها.. تلك التي تغرد – خارج سرب النساء – داخل قفصي الصدري!، وما أن توغلت قليلاً في الكتاب، حتى أذهلتني اللغة التي يكتب بها هاشم كرار، وتبخرت في لحظة كل الإنطباعات السيئة التي أخذتها عنه، وتذكرت التعليق الذي كتبه الشاعر الكبير نزار قباني، على رواية ذاكرة الجسد للمبدعة أحلام مستغانمي، بأن الأعمال الإبداعية الكبيرة لا يصنعها إلا المجانين، وعزيزي هاشم كرار – الرجل غريب الأطوار – طلع مجنووون كبير!
ما قرأته للرجل خلال اليومين الماضيين، يؤكد رسوخ قدمه في فضاء الكتابة الأدبية الساحرة، أعماله ذات طابع مأساوي وشعري، مثخنة بالمرارات والخيبات، تحبل بقضايا الحرب والسلام، في أديس أبابا المغسولة والمسقية بزخات المطر، وهي تضج بأصوات كلاشنكوفات ثوار التقراي، وترطن بي (آربي جيهات) الأورومو، وتولوّل بطائرات منغستو، ولون البُن.. وعناق السنبلة والمنجل.. ونكهة الديمقراطية الفسيحة، المعمدة بالعرق، والرهق، والرصاص والقلم، والدم، وعيون أبرهيد سومسوم!!
والمرأة في كتابات الرجل المعجون بموية العفاريت، تهدم الأسوار، تركض في براري الجرأة وسهوب الحرية الشاسعة كظباء طليقة نقية لا يعيقها شيء، أو كطيور بحرية تحلق عاليا في سماوات زرقاء لا يكدرها شيء، يشعر بفرحة الإنتصار في عيون أبرهيد سومسوم، الصحفية التي ترأس تحرير «أثيوبيا الحرة»، ويستمتع بطلاوة الحديث في لسان إنتصار المرأة التي قابلها في المطار وهي ممتلئة بحب غريب لوطنها أرتيريا، كما أنه يحتفل بإبتسامة أوليفيرا تراكوفا، الصحفية التي تعمل في راديو وتلفزيون اسكوبيا، عاصمة إحدى جمهوريات يوغسلافيا الست، وهي تملأ شاشة القناة الأولى، في السادسة من مساء كل سبت، تدير الحوار ببراعة مدهشة، تمسك دفته – أحياناً بسواعد صوتها.. أحياناً بايماءة.. بهزة رأس، خفيفة.. وفي أكثر الأحايين بأسنان تشع بالابتسام!
يسترجع هاشم كرار ذكرياته في المعهد العالي للصحافة في بلغراد، وهو يحكي عن المترجمة (تانيا) وهي تترجم لهم المحاضرات إلى الإنجليزية، ومنها ينتقل إلى أنجلينا دورودفتش متحدثاً عن لوحاتها المهووسة، حتى تمبوشة ست العرقي، أخذت نصيبها من الحكي، والرجل المعتوه يبحث عن سهول خضراء جديدة تعيد إلى الروح الظمأى بعضا من ماء وعشب، فتحيا حياة ثانية لا تنتصب فيها الكوابح أو الموانع، والكلمات تتسكع في براحات الورق الأبيض بعد أن منحها عقله وروحه وقلبه ووجدانه.
كسرة:
نسأل الله تعالى عاجل الشفاء لأستاذنا هاشم كرار