الخرطوم : أيمن محمود
غابة ديجانقو أو غابة السنط التي تقع قبالة ضاحية الفتيحاب من الجانب الشرقي للنيل الأبيض وبمحازاة كبري الانقاذ.. غابة يصعب التكهن بعمرها.. فهي تحظى بعدد مقدر من الأشجار ومن ضمنها شجر السعد وهي نفس فصيلة شجرة الحضرة التي عسكر فيها محمد أحمد المهدي عند حصار الخرطوم، فقد حط رحاله في شجرة الحضرة بديم أبوسعد أو الفتيحاب ومن هنا يتجلى لنا إن غابة السنط قديمة قدم الزمان.
ترجع تسميتها بغابة ديجانقو نسبة لأحد قطاع الطرق الذي كان يقيم فيها ويختفي بعد تنفيذ مخططاته الإجرامية في وسط الخرطوم. ولسبر أغوار هذه الغابة أكثر فقط تجولوا معنا.
مشاهد من الغابة
لغابة السنط عدة مداخل فكل الطرق تؤدي الى الغابة ممرات وزنقات من الشارع الرئيسي الى داخل الغابة مع توفر شارع ترابي لم يطاله الأسفلت بعد يسمح بمرور السيارات، باعة متجولون استعادوا قيمة تذاكرهم بعد أن سئموا من مشاهدة أفلام توم آند جيري المتكررة بينهم ورجال البلدية في المواقف ووسط السوق العربي فاستعاضوا بدلاً عنها بعرض منتجاتهم وخدماتهم لمرتادي الغابة والشط كما هو الحال عند ستات الشاي.
تداخل الناس من مختلف الأجناس والأعمار فأضحت حركة دؤوبة من قبل مرتادي الغابة، فالكل يسعى في اتجاه والبعض الآخر يبحث عن مبتغاه، فنجد أسباب وجود هؤلاء تختلف باختلاف مآربهم، فهنالك من سجل حضوراً باكراً من أجل اشباع هوايته المفضلة في صيد الأسماك، فنجد نظره معلقاً بالسنارة ويديم النظر إليها ولا يثنيه شيء عن ذلك إلا إشارة طرور سنارته التي غاصت في أعماق البحر معلنة عن الظفر بسمكة ما.
أكد لنا العم صالح المرين وهو من أبناء الرميلة أن حضوره للغابة يجيئ من باب الفراغ.. فقد طالب بالمعاش الاختياري من أحد الدوائر الحكومية نظراً لظروفه الصحية، ولكن هذا لا يعني أن يقبع في منزله دون فعل شيء، أو كما قال لنا، كان لزاماً عليّ أن أتحرك هنا وهناك من أجل استقرار صحتي، فاخترت مهمة الصيد المحببة الى نفسي وبهذا المخطط أضرب عصفورين بحجر، أرفه عن نفسي وأتلذذ بوجبة سمك دسمة.. سألناه إن كان يرتاد الغابة إبان مزاولته لأعماله قبل المعاش فأجاب قائلاً: على الدوام من بعد صلاة الجمعة الى غروب الشمس، فأنا نشأت وترعرعت على ضفاف النيل ولي معه ذكريات لا تنسى وعن الممارسات والسلوكيات التي تحاك عن الغابة رد قائلاً فيما مضى من وقت كان لا يرتاد الغابة إلا عدد بسيط جداً من الناس مما يمكنك من الإطلاع بمآرب كل شخص، أما الآن فقد اختلط الحابل بالنابل.
الفي البر عوام
تركنا العم المرين يزود سنارته بطعم جديد بعد استحواذه على سمكة من دون أن تلاقي مصير مبارحتها النيل رافضة مقولة (الفي البر عوام).. واتجهنا صوب مجموعة من الشباب يفترشون الأرض في حلقة دائرية منهمكين في لعبة الكوتشينة ولعلمي أننا لا نحظى بإجابات قاطعة أثناء اللعب آثرت الصبر لحين الفراغ منه، وهذا ما كان لي فسألتهم عن الأسباب والدواعي التي أدت الى اختيار غابة السنط عن سائر أماكن الترفيه الأخرى. فجاءت إجابتهم مجتمعة بأن الظلال الوارفة مع الخضرة والماء والوجه الحسن هي أحد المحفزات التي أجبرتنا عند عملية الاختيار.. فنحن نراها متنفساً لكسر حاجز الرتابة والملل والروتين كل على حسب برنامجه الدراسي كان أم العملي.
أكد لي أحدهم أن بعضاً منهم حديثو العهد بارتيادهم للغابة ويمكنني أن أصفهم بالمداومين فيما بعد.
أشاروا لي بمكونات الحلة بعد طرح سؤال مفاده من أين تحصلون على وجباتكم؟.. فتبرع واحد منهم بإكمال الإفادة قائلاً: إنهم يوفرون كل مدخلات الحلة ومواد (بنائها) عن طريق المساهمة.
ليست بالضرورة أن تقتصر مثل هذه الرحلات على الشباب فقط، إذ تمتليء غابة السنط بالرواد وخاصة الأسر والعائلات في يوم الجمعة فترى السيدات والأطفال وأعمدة الغداء وحافظات الماء البارد والسجاد ويتخير أي منهم موقعاً لا يتحقق فيه شرط أن يكون قصياً. فروح التداخل بين مرتادي الغابة والشط هي سيدة الموقف، فتجد اقتسام الزاد لمن لا زاد له وبالمقابل يسعى هو لمنحهم ما يتوافر عندهم وهكذا يتم إضفاء جو مفعم وجميل وسط كرم وحفاوة أهل بلادي.
الثنائي المرح:
من المشاهد الاستثنائية بغابة السنط أن كل الناس اتنين اتنين فرح يتكلم بلغتين، وغالباً ما يكون هذا الثنائي المرح من طلاب الجامعات الفارين من قاعة الدراسة والمتسكعين بعد الدوام الجامعي. ومما يؤكد ذلك كمية الكتب والمراجع التي يتخذ منها أصحابها مقاعد ينسندون عليها على غير المفترض أن يطالعوا ما فيها بنهم شديد ليستندوا بشهادة تؤمن مستقبلهم.
هناك من يرتاد الغابة للسباحة والاستحمام.. ولكن ما أن يتناهى جسده داخل النيل حتى يطل لنش شرطة المسطحات المائية المرابطة والمراقبة على طول الشط تطالبه بالخروج، وجاء هذا الطواف الدائم لأفراد الشرطة بعد تسجيل العديد من حالات الغرق لقليلي الخبرة والتجربة بالسباحة.
بينما يوجد الماء يوجد الكلاء هذا ما التمسناه بالنظر الى كمية (زرائب البهائم) داخل الغابة مما يعني الوجود المستمر لهذه الحيوانات داخل الغابة وبطبيعة الحال يقابله وجود مستمر من قبل أصحابها، وبالسؤال عنها اتضح أن هذه الزرائب موجودة منذ أمد بعيد بل كانت سوقاً للماشية معروفاً عند البعض بسوق الغابة.. سألتهم عندما يفيض النيل كيف تتدبرون أمركم؟.. قالوا: نحن نقوم بتحويل الزرائب على حسب ظاهرة المد والجزر للنيل وعند المفيض نعتلي الرصيف المقابل لكبري الانقاذ الى أن يعلن النيل انسلاخه من تمرد الفيضان فنشرع في إعمار الزرائب التي دمرتها المياه.
في غابة السنط للشرطة وجود:
دوائر الشرطة وردهات المحاكم وغياهب السجون تظفر بعدد مقدر من الوقائع والأحداث التي تمت في غابة السنط.
ظواهر إجتماعية سالبة:
فهناك الكثير من الظواهر الاجتماعية السالبة التي اتخذت من الغابة مأوى لها.. ولكن الوجود الكثيف من قبل رجال الشرطة بزيهم الرسمي والمدني حد من هذه الظواهر. فأكثر الحوادث التي تناقلتها وسائل الإعلام ظاهرة انتحال الشخصية. فقد درج بعض ضعاف النفوس على استغلال وابتزاز المواطنين الموجودين في غابة السنط تحت زعم أنهم ينتمون الى جهات أمنية ويقومون بنهب ممتلكاتهم وهواتفهم النقالة.
وبتكرار تلك البلاغات المزعجة سيًرت وحدات مشتركة من الأمن والشرطة لتعقب الجناة مما أدى إلى اختفاء تلك الظاهرة الدخيلة.
توجد مواصلات بعد العرض:
قبل أن يحمَّر قرص الشمس إيذاناً بالمغيب يخرج أرتال من البشر من بين الأشجار في جماعات وفرادى، ويجيئ خروجهم هذا بشيء من التروي واضعين في بطنهم بطيخة صيفي فهم موقنون أن الحافلات الروزا تتراص على رصيف الشارع قبالة الكبري في انتظار (تعديل الفردة) فأصحاب الحافلات يبرمجون زمن وجودهم هنا مع زمن خروج مرتادي الغابة، لذا نجد أن في الغابة خدمات متوفرة بدءاً من الوصول إليها وانتهاءاً بالخروج منها ومروراً بكل الاحتياجات في داخلها.. مما حدا بالشباب أن يرددوا مقولة غابة السنط عالم جميل