للحقيقة لسان / رحمة عبدالمنعم يكتب مجلس الأمن والدفاع… دلالات التوقيت والمكان

لم يكن اجتماع مجلس الأمن والدفاع في الخرطوم أمس الثلاثاءحدثاً عادياً، بل علامة فارقة في مسار الحرب التي طالت وطغت على تفاصيل الحياة في السودان منذ اندلاعها قبل أكثر من عامين ونصف،أن ينعقد المجلس الأعلى للأمن والدفاع في العاصمة لأول مرة منذ اندلاع الحرب، وبكامل عضويته، برئاسة الفريق أول ركن عبدالفتاح البرهان، فذلك إعلان غير مباشر بأن الدولة استعادت شيئاً من نبضها، وأن الخرطوم لم تعد عاصمة منكوبة بل عاصمة قرار.

الاجتماع الذي جاء في لحظة إقليمية ودولية مشحونة بالمبادرات والمقترحات، بدا أكثر ميلاً إلى الحسم منه إلى المجاملة،فالمجلس لم يتحدث عن “هدنة” أو “اتفاق مؤقت”، بل عن “الاستعداد للعمليات” و”جهود التعبئة والاستنفار”،لم يرد في بيانه ما يشير إلى موافقة على أي هدنة جديدة، الأمر الذي يُفهم منه أن الخرطوم الرسمية لم تعد ترى في الوقف المؤقت لإطلاق النار مخرجاً، بقدر ما تراه فرصة يتنفس فيها المتمردون لإعادة تنظيم صفوفهم….

اللغة في البيان جاءت عسكرية الطابع، لكنها محسوبة النبرة، تضع المسؤولية على المجتمع الدولي الذي أدان جرائم المليشيا، ثم وقف – كما قال البيان – عاجزاً عن تنفيذ قراراته بمنع تدفق السلاح إلى دارفور، في الوقت نفسه، وجّه المجلس تحية للشعب السوداني وتكريماً لشهداء “معركة الكرامة”، وهي إشارة رمزية تؤكد أن روح التعبئة الوطنية ما زالت حاضرة رغم طول أمد الحرب وتداعياتها…

ورغم أن البيان لم يقطع خيط التواصل مع الخارج، إلا أنه أعاد تعريف طبيعة ذلك التواصل. فشكرُ المجلس للمبعوث الأمريكي مسعد بولس لم يكن إقراراً بقبول مبادرة بعينها، بل تعبيراً دبلوماسياً عن تقدير الجهد، من دون أن يتبنى المجلس ما جاء في تلك المبادرات، هذه الصيغة المقتضبة والذكية في آنٍ واحد، كانت كافية لحسم الجدل الذي شاع في اليومين الماضيين حول قبول الحكومة السودانية لهدنة جديدة أو استعدادها للدخول في ترتيبات وقف إطلاق النار،،،،…

أما دلالة انعقاد الاجتماع في الخرطوم بالذات، فهي تتجاوز المكان إلى المعنى، فالاجتماع في العاصمة، التي كانت ميدان المعركة الأولى والأشرس، هو إعلان بأن الجيش لم يعد يدير الحرب من أطراف البلاد، بل من مركزها السياسي والتاريخي، عودة القيادة إلى الخرطوم ليست فقط عودة إدارية، بل رمزية لعودة الدولة ذاتها، ولإعادة توجيه بوصلة السيادة من واقع الدفاع إلى فعل المبادرة.

الاجتماع أيضاً حمل بعداً سياسياً غير معلن: فقد أظهر وحدة مؤسسات الحكم في لحظة تتكاثر فيها المبادرات الخارجية، وتتعالى فيها أصوات من الداخل تطالب بحلول تفاوضية، وجاء البيان ليقول – بلغة الدولة لا الأفراد – إن السودان يقبل الحوار، لكن من موقع القوة لا الاضطرار.

لقد كانت الرسالة الأهم التي خرج بها اجتماع الخرطوم أن الجيش ما زال يملك زمام المبادرة، وأن الدولة لم تتنازل عن حقها في تقرير مصيرها بنفسها، أما الهدنة فليست سوى تفصيل في حرب طويلة لم تنتهِ فصولها بعد، لكنها باتت تميل – يوماً بعد يوم – نحو وضوح المشهد واستعادة مركز القرار..هكذا تحدثت الخرطوم هذه المرة، لا بصوت البندقية وحدها، بل بصوت الدولة التي بدأت تستعيد أنفاسها وتعيد ترتيب أولوياتها من قلب العاصمة.

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.