الخرطوم : أيمن كونتا
لما كان السودان يتسم باتساع رقعته المساحية والجغرافية كان لابد أن تتنوع فيه الثقافات والاُطر والأعراق والقبائل تبعا لهذا الاتساع كما ذهب التنوع الى أبعد من ذلك عندما تأصلت كل ثقافة قبيلة على حدة.. فما أن تذكر الفنون الشعبية أو طقوس قبيلة حتى يكون مسمى نوعية الفرقة حاضرا لهذه القبيلة أو تلك. فعند قبيلة النوبة بكل فروعها ودوائر اختصاص جبالها الـ99 نجد لعبة (الكمبلا) من الأساسيات وتعتبر حكرا ونسباً وتأليفاً واداءً على تلك القبيلة في الوقت الذي يمكن أن تمارس فيها بعض ألعاب الفرق الأخرى مثل الكيتة وغيرها.
فالكيتة هي فرقة استثنائية في التفرد والايقاع تمارسها عدة قبائل منها البرنو والهوسا والنوبة، وبالرغم من القاسم المشترك الذي يفرض نفسه في مسألة حساب ايقاع العزف على الآلات المتشابهة إلا أن الباقي يتوقف على الآداء الذي يرضي الحضور ويدخل في نفوسهم البهجة والطرب والسرور من دون بواقي أو كسور.
حدثنا أحمد صالح علي ضحية بأن الكيتة تعني الشيء الجميل ومن هنا يجئ دور الكيتة في انصهارها في بوتقة المناسبة الجميلة أيا كانت فتشاركها الاحتفال بانضمامها لمنظومة فعالياتها.
أكد أحمد ضحية أن الكيتة موجودة منذ الزمان الغابر وكانت محصورة فقط لتمجيد مناسبات السلطان علي دينار ومراسم احتفالات سلطنته ولا يسمح لاية فرقة التمرد على هذا الديدن بخروجها وإقامة أية مناسبة في أية مدينة وإن كانت على الحدود المتاخمة للسلطنة. ولكن ما أن لبثت فرق الكيتة أن تتنفس الصعداء برحيل السلطان علي دينار عن دينانا وهنا فقط انتشرت الفرق في كل ربوع السودان كانتشار النار في الهشيم وهذا لم يكن يحدث إلا برحيل السلطان.
اعطى الخبز لخبازو حتى لو يأكل نصه.. هكذا ابتدر أحمد آدم الشهير (بكدبو) إجابته بعد طرح سؤال مفاده. هل هناك فئات دخيلة على مجتمع الكيتة؟ قبل أن يقول: عالم الكيتة عالم قائم بذاته لا يمكن لاي شخص أن ينخرط فيه ما لم يكن يتشبع بمواصفات أقلها الصبر، فعملية التدريب على عزف الكيتة يتطلب شهورا طوال.
وإن لم تكن تستصحب الرغبة القوية والممذوجة بالعزم فانك سوف تلغي الفكرة من أساسها في غضون أقل من شهر، وما يؤكد ما ذهبت إليه أن إحدى المجموعات قصدتنا في الاستعانة ببعض الآلات للعزف عليها في محفل ما مع العلم بانهم مبتدئين ولكن سرعان ما قاموا باسترجاعها تحت ذريعة الفشل.
ونحن دائما ما نقول إن التلعيم والتدريب على آلات الكيتة يأتي بالاكتساب المتراكم بتقادم الايام مثلها مثل تعلم الطفل النطق بالكلام والذي يتغنه بمرور الايام وأي شخص يفتكر انه يمكن إجادة العزف في أقرب وقت يعتبر هذا ضربا من المستحيل.
شاطر أبكر موسى (بوبه) والذي يعمل على آلة (الترمبيت) الرأي مع الآخير في أن مواصفات عازف الكيتة أن يكون صافي الذهن والبال ومرهف السمع ومسترق النظر حتى يلتقط اللحن من ذوي الخبرات.. فالحضور الطاغي هو أولى خطوات إعتلاء سلم الكيتة والتي تتبعه سلالم أخرى مشوبة بمحاذير كثيرة يجب أن تلافيها لتؤهلك في نهاية المطاف الى ما تصبو إليه.
كذلك لابد لعازف الكيتة أن يتسم بطول النفس لأن هناك الكثير من المقطوعات توصف بالطويلة لا يستدعى فيها عملية الشهيق والزفير خوفا من اختلال اللحن فضلا عن قوة التحمل لأن بعض الدفوف أوزانها زائدة تتطلب دفع أجرة من تمام العافية.
تتعدد آلات فرقة الكيتة بتعدد طاقم الكورس الذي يعزف عليها والرقم 4 هو سيد الأرقام في مكونات الفرقة عازفين وآلات واهم عازف من أفراد الكورس الرباعي هو القابض بكلتي يديه على آله الكيتة.
اذا جئنا أن نُعرِّف الكيتة فيمكننا القول بأنها اشبه بالصفارة ليتم صنعها من نوع خاص من الاشجار يسمى (دبكر) يتسم هذا الشجر بالمتانة واللمعان وموطنه الاصلي الصعيد وينمو دائما بالقرب من البحر، ايضا من مدخلات صفارة الكيتة ما يسمى (بكروكرو) وهو من النحاس الخالص يتم تركيبه في أعلى مقدمة الكيتة.. أما (البوبي) وهو من القنا فيتم تركيبه في مؤخرة الصفارة لدخول الهواء بعد أن تدعم بما يسمى (بالطبقة) وهي تشكل من خام الزنك وفائدتها لتثبيت الهواء فضلا على أنها تضفي على اللحن قوة النغمة ولا تجعله يتلاشى ليأخذ مجراه الصحيح داخل الكيتة ليشكل اللحن النهائي.
كذلك من معينات آلة الكيتة (القشة) وهي من القذام ويتم ربطها في نهايتها بخيط متين حتى لا تتزحزح من مكانها فتؤدي الى اضرار بليغة للحن. وأخيرا الاخرام أو الفتحات وهي ثلاثة من الاسفل وواحدة في الاعلى تسمة (ووللم) هذا عن آلة الكيتة أما النقارة فهي تنقسم بدورها الى ثلاثة اقسام. النقارة الكبيرة وتدعي (التمبل) والنقارة المتوسطة ويطلق عليها (الركبة) والنقارة الصغيرة وتسمى (الترمبيت).
تصنع النقارة من برميل الحديد يتم قطعه بمواصفات ومقاييس لها ابعاد جمالية وفنية ويراعى فيها حسابات الحجم والوزن. نظرا لاطالة أمد بقاء النقارة معلقة على اكتاف العازف طيلة فعاليات المهرجان أو العرس وهذا بالطبع عملية مجهدة، فالجهد المبذول في حمل النقارة المضاف إليه جهد الضرب عليها ينجب ابناً شرعياً للحن لا يدخل نفوس الحاضرين تووش بدون رتوش.
اختلاف المسميات لا يفسد اللحن قضية:
بعد اختيار مواصفات الهيكل الخارجي للنقارة يتم احاطته بجلد الماعز المطرز بخيوط جلاده متينة للابقاء على تلك الجلود ملتصقة مع البرميل مؤكدة بذلك أن اللحن مسؤولية تضامنية لذا نجد أن فائدة الخيوط توازن الجلود من الامام للخلف كذا يوجد (الشداد) وهو المسؤول عن شد ورخي النقارة.
عود (القانقة) من دونه تصمت النقارة ولا يسمع لها حسا حتى اشعار آخر فعملية اختيار هذا العود تدخل عدة اختبارات ومعاينات تؤهله للدخول في منظومة اللحن إذا لم يضع في الاعتبار كل هذه المعطيات سوف يقع ما لم يكن في الحسبان كأن ينكسر العود اثناء العزف فتعقد ملوما محسورا.
من مدخلات الدف أو النقارة (الجرجر) وهو المسؤول عن تغيير السلم الموسيقي والنغمات بين كل فينة والاخرى كما هو الحال في ما يسمى (الشمعة) والتي تقوم بنفس الدور ولكن بنغمة مغايرة.
آلة الترمبيت وهي النقارة التي توصف بالمتوسطة تشبه الى حد كبير النقارة التمبل الكبيرة في الشكل والمضمون والتصميم إلا انها يضاف لها الوتر الذي يستخدم في المداخلة بين الالحان على حسب ما يقتضيه مسار المقطوعة.
كما أن لها عدد (دقاقات) لتنويع النغمة على العكس من بقية الدفوف والتي في الغالب يكون لها دقاق واحد ولكن يترأى الى ناظريه بأنه غليظ بعض الشيء.
في الوقت الذي اثبتت فيه الكيتة حضورها في كل المحافل الفرائحية والمناسبات الشعبية والرسمية كان لابد لها من جهة تنظم عملها وتتبع لها إداريا .. فكان انضمامها لاتحاد الفنون الشعبية في أمدرمان.
يقوم هذا الاتحاد بتسيير أمورهم ومعالجة بعض المعوقات والاشكاليات التي تعترض طريقهم وايضا يقوم اتحاد الفنون الشعبية باستدعائهم للمشاركة في حال المهرجانات الكبيرة وفي المجالات الرسمية والكرنفالات الحكومية وغيرها.
يطلب المواطنون الكيتة بصفة مستمرة بل أضحت من الطقوس التي تضع في دراسة جدوى المناسبة من ختان أو زواج وغيره وبل صارت بصورة مستديمة في حال افتتاح المحال التجارية والمطاعم والكافتيريات.
شبكة فرقة الكيتة يمكن الوصول إليها حاليا ومستقبليا فهي متوفرة في ارجاء العاصمة وخاصة فرقة الانقاذ التي تتسم بالتواجد المستمر ومع العازفين المهرة ووفرة الآلات فاي مواطن يمني نفسه بالاستجلاب فرقة كيتة يكون له ذلك لان اسعار استقدامها في متناول اليد ولا يوجد سقف لمبلغ معين وانما يتأتى ذلك بالتراضي وكل على حسب مقدرته فهم يعتمدون كثيرا على (النقطة) والمبلغ الذي يضعه الحاضرين في جباه أفراد الفرقة. وكلما كان العزف متفردا وجميلا وتلقاه الحضور بانتشاء أخذتهم الهاشمية وتم ضخنا بالمزيد من الاوراق النقدية. والتي في كثير من الاحيان تضاهي المبلغ المادي الذي تم الاتفاق عليه من قبل بداية الحفل. أما في المهرجانات الرسمية فيتم الاتفاق مسبقا بمبلغ معين لا يمكن أن نتنازل عن جزء منه فنحن نعول عليه كثيرا عند تقسيمه بين أفراد الفرقة نظرا لان في مثل هذه الكرنفالات لا توجد (النقطة) التي تعوضنا عن ضألة المبلغ في حالة التنازل بعض الشيء من الاتعاب.
أما بشأن الالحان فهي مستوحاة من التراث القديم والذي يتم تطويره وادخال بعض التعديلات عليه إذا لزم الامر ليخرج بالصورة المطلوبة، وعملية تحديث لحن التراث يقوم به أفراد لهم تراكم خبرات طويلة ومتوارثة. ويصبون جام درايتهم بها ليبقى اللحن خالدا ليورثوه مع العزف لابنائهم كتراث قبلي لا يمكن الاستغناء عنه كالرطانة تماما.
وكثير من الاحيان عندما يلتئم شمل الفرقة في زمن ماشي وزمن جاي نقوم بتأليف بعض المقطوعات التي يطلبها سوق العمل كأغاني السيرة أو أغاني بعض البنات حتى تتماشى مع الطلبات التي ينادي بها الحضور في الحفل وإذا لم تكن ملما ببعض منها فبالتأكيد سوف يأفل نجم تلك الفرقة ويذيع صيتها بانها ليست بالقدر المطلوب.