متابعات : سودانية نيوز
القرارات التي صدرت من البنك المركزي بإلزام المستوردين بإحضار الشهادة الجمركية وشهادة الوارد خلال ثلاثين يوماً، تبدو لأول وهلة محاولة لاستعادة الانضباط المفقود في سوق الاستيراد. لكنها في حقيقتها حلقة جديدة في فوضى القرارات، غير المدروسة بالطبع، التي غرقت فيها الحكومة مؤخراً، وتعمل على خنق الاقتصاد، مع سبق الاصرار والترصد، ومن بينها هذا القرار الذي يشبه قطع التيار الكهربائي عن حي كامل لمعاقبة منزل صغير.
السلطات تلزم المستورد بأن يقدّم شهاداته خلال 30 يوماً، متجاهلة أن البضاعة قد تمضي أسبوعين عالقة في ميناء مكتظ، أو تنتظر دورها في ميناء آخر، أو تقف في عرض البحر لأن “الرصيف زعلان” مخنوق، مضرب عن العمل .. ألخ. سيما وأننا في بلد متقلبة الأحوال، وعالم مضطرب، زمن الوصول فيها ليس بيد المستورد ولا بيد سائق الونش.
الطامة الكبرى أن خطأً فنياً بسيطاً—خطأ في التحميل، انقطاع في النظام الإلكتروني، موظف ذهب في (إجازة طويلة)، أو انشغال الشبكة—قد يؤدي إلى حظر المستورد نهائياً وكأنه ارتكب جريمة غسيل أموال.
أي خلل تقني في منصات الجمارك أو البنوك سيُترجم فوراً إلى كسر ظهر التاجر، الذي تكرهه الحكومة، وليس مجرد غرامة أو تأخير.
من زاوية أخرى ثمة ضربة موجعة للمصانع والسلع الإستراتيجية، إذ أن المصانع التي تعتمد على مدخلات مستوردة ستجد نفسها أمام مشهد عبثي، خط إنتاج ينتظر، وعمال يتململون، ومخازن فارغة، بينما المدير يجلس أمام نافذة البنك، غارق في متاهة بيروقراطية، وربما يحتاج إلى الدفع تحت الدرج، لعلاج مشكلة صغيرة، فالقيود أصلا تقود إلى هذه التجاوزات، كما أن الدواء والغذاء بدورهما لن يسلما من هذا الارتجاج، فالمستورد الذي يُحظر فجأة سيترك آلاف المرضى في مهب الريح، كذلك الجوعى.
لنحسن الظن بالحكومة، ونردد بأنها تريد مكافحة التهريب وغسل الأموال، لكن بدلاً من بناء منظومة خالية من التعقيد، تلجأ لإجراءات عقابية تشبه منع المركبات من الحركة بحجة تنظيم المرور، وهنا بالضبط يتحول البنك المركزي إلى “غرفة طوارئ”، ويتحرك باندفاع وليس برؤية، كما حدث في قصة فك واحتكار صادر الذهب.
بكل تأكيد فإن مثل هذه الإجراءات لا تنظم السوق، بل تزيده ارتباكاً، ولا تحفظ النقد الأجنبي، بل تشعل الطلب عليه في السوق الموازي، ولا تدعم الصناعة المحلية، بل توقف المصانع عن العمل، ولا ترفع كفاءة الجهاز المصرفي، بل تزرع انعدام الثقة بينه وبين القطاع الخاص.