في يوم الأربعاء، وفي مدينة إسطنبول البعيدة عن رائحة البارود وصرخات السودان المكلوم، اجتمع بعض من يسمّون أنفسهم “حملة لواء الفكر الإسلامي الجديد”، ليقدّموا عرضاً غريباً في قاعة مزخرفة بالعناوين اللامعة عن “قراءة المشهد الراهن”، لم تكن تلك ندوة فكرية بقدر ما كانت مرثية سياسية كتبها جناح علي الحاج في حزب المؤتمر الشعبي على أطلال المبادئ، وقرأها بلسان مليشيا الدعم السريع.
تحدث من المنصة الدكتور هارون عبد الحميد، رئيس منظمة الشفافية والحكم الرشيد مقدماً ورقة عن حجم المأساة الإنسانية في السودان ،وشارك عبر “زووم” الدكتور محمد بدر الدين، نائب الأمين العام لحزب المؤتمر الشعبي، بينما تسللت تسجيلات صوتية عبر “واتساب” للأمين السياسي كمال عمر، كأنها رسائل من زمنٍ آخر، زمنٍ ما زال يعتقد أن السياسة تُدار بالتهويم والتناقض، لا بالعقل والموقف…….
قال المتحدثون إنهم أسسوا حركة العدل والمساواة، وإنهم كانوا “قادة ميدانيين” فيها، ثم تابعوا بأن النضال المسلح كان طريقهم للإطاحة بالنظام السابق، لكن الحقيقة أن ما حدث لم يكن نضالاً ، بل خيانة من الداخل أعقبت مظاهرات شعبية حقيقية خرجت تطالب بالإصلاح، فاستغلتها جماعة من الطامحين للسلطة لإحداث اختراق في مؤسسات الدولة، أما حركة العدل والمساواة التي يفاخرون اليوم بتأسيسها، فهي على النقيض تماماً من هذا الخطاب؛ إذ تقاتل الآن جنباً إلى جنب مع القوات المسلحة دفاعاً عن السودان، ورئيسها وعدد من قادتها يشغلون مواقع وزارية في الحكومة، يقدمون نموذجاً وطنياً صادقاً يغاير تماماً ما تردده هذه الوجوه المتناقضة من إسطنبول….
ثم عاد المتحدثون يتحدثون عن المحكمة الجنائية الدولية، مطالبين بتسليم الرئيس الأسبق عمر البشير “فوراً”، وثأراً لدماء دارفور، لكنهم، بالمقابل، لم يطالبوا بتسليم المجرم محمد حمدان دقلو (حميدتي)، الذي ارتكبت مليشياته أبشع الجرائم بحق السودانيين: قتلت وشردت واغتصبت ونهبت، وما زالت دماء الأبرياء تنزف في الفاشر، حيث تُرتكب تصفيات على أساسٍ عرقي في فظائع لم يشهدها السودان من قبل، تلك ازدواجيةٌ أخلاقية تُسقط عنهم آخر أوراق المصداقية، وتكشف أن “العدالة” لديهم ليست سوى عصا تُرفع في وجه من يختلفون معه، وتُخفض أمام من يوالونهم.
وما هو أدهى وأغرب، قولهم إن “البرهان هو السبب في اندلاع الحرب”، لأنه انسحب من الاتفاق الإطاري “تحت الضغط”، كأنهم يتحدثون عن رجلٍ غيّر رأيه في جلسةٍ مغلقة! يتجاهلون أن الحرب لم تكن نتيجة قرار سياسي، بل تمرد مسلح على الدولة، ومحاولة واضحة لإسقاط الجيش وتمزيق البلاد.
أما حديثهم عن “الرباعية” وضرورة “الانصياع لها”، فهو ذروة الانحدار في اللغة الوطنية، أن يأتي حزب سوداني ويطالب رئيس بلاده بالانصياع لإملاءات الخارج، فذلك إعلان إفلاس سياسي وأخلاقي، هذه ليست رؤية سياسية، بل وصاية أجنبية مغلفة بخطاب الإصلاح،لقد كان كمال عمر ومن معه يتحدثون وكأنهم يخفون وجوههم عن الحقيقة نفسها، وارتدوا عباءة المليشيا الخطابية لتغطية انحيازهم السياسي ، فحين يبرر السياسي الحرب باعتبارها “صراع كراسي”، ويساوي بين الجيش والمتمردين،فإنه لم يعد معارضاً حقيقياً، بل صار جزءًا من آلة الدعاية التي تخدم المتمردين.
اللافت أن الندوة نُظمت في إسطنبول، المدينة التي أصبحت مرآة لكل “معارضٍ مرتاح”، يتحدث عن معاناة بلاده من مقعدٍ دافئ، بينما يقتات الناس على الخوف في بلادهم، في كل مرة يُعقد فيها مثل هذا اللقاء، يدرك السودانيون أن بعض السياسيين لم يتعلموا شيئاً، ولم ينسوا شيئاً.
ليس في تصريحات جناح علي الحاج ما يستحق الرد السياسي، بقدر ما يستحق الرثاء الأخلاقي، فحزبٌ كان يوماً جزءاً من تيار الفكرة الإسلامية، صار اليوم جزءاً من خطاب الفوضى، وواجهة جديدة لتيهٍ قديم..لقد سقط القناع،لم يعد المؤتمر الشعبي جناحاً سياسياً، بل ظلاً باهتاً يتفيأ في ردهات الفنادق، يوزّع شهادات الوطنية ويستجدي الخارج ليحكم الداخل،والتاريخ الذي لا يرحم، سيكتب يوماً أن قيادات من (الشعبي جناح علي الحاج ) تحدثت في ندوة إسطنبول بلغة الجنجويد، وادّعت أنها تحمل راية الإصلاح.