قبل تسعة أشهر، اجتمعت القوى السياسية الوطنية في فندق «القراند هوتيل» ببورتسودان تحت شعار «الحوار السوداني – سوداني»، يومها بدا الاجتماع جميلًا في عنوانه، فارغاً في مضمونه؛ لم يكن سوى حوار بلا نتائج، ولقاء انتهى كما بدأ، لا ثمرة له سوى الصور والبيانات، كان ذلك في وقتٍ كانت البلاد فيه أحوج ما تكون إلى موقفٍ وطنيٍّ جامع، لا إلى بيانات تُضاف إلى الأرشيف، ثم بعد ذلك تَوَارَت القوى السياسية عن المشهد لأشهر، وغابت الأحزاب والقوى التي يُفترض أن تكون صوت العقل المدني في لحظة الاضطراب، غيابها ترك الساحة خالية من الحضور السياسي الفاعل، فبدا الوطن وكأنه يسير بلا توازنٍ ولا بوصلة، في حين تقدمت المبادرات الفردية والمواقف المنفعلة على حساب الرؤية الوطنية الجامعة.
لكن أول أمس الجمعة، في بورتسودان، بدا المشهد مختلفاً؛ اجتماع اللجنة السياسية السيادية مع القوى الوطنية وأطراف السلام أخرج السياسة من عزلتها، وأعادها إلى الواجهة، لم يكن لقاءً شكلياً، بل محاولة جادة لإعادة ترتيب البيت الوطني، وبناء حوار سوداني بإرادة سودانية خالصة، لا بإملاءٍ خارجي، ولا تحت مظلة تسويات غامضة.
البيان الختامي الذي صدر عن اللقاء جاء متماسكًا وواضحاً، تحدث عن انعقاد مؤتمر الحوار السوداني الجامع بمشاركة الجميع دون إقصاء، وعن تشكيل لجنة وطنية مستقلة لإدارة الحوار بالداخل، وتهيئة المناخ لضمان نجاحه، وفتح الرؤية الوطنية للسلام والتحول الديمقراطي أمام كل القوى، وكانت الفقرة الأهم حين رحب البيان بـ«الجهود والمساعي الدولية التي يضطلع بها أصدقاء وأشقاء السودان لدعم الجهود المبذولة لإيقاف الحرب دون المساس بالسيادة الوطنية والقرار الوطني»، عبارة قصيرة، لكنها كاشفة عن وعيٍ سياسيٍّ رصين، يفرّق بين المساندة والوصاية، وبين التعاون والتدخل.
اللافت في هذا الاجتماع أنه ضمّ طيفًا واسعاً من القوى السياسية التي تمثل مشارب فكرية وتاريخية مختلفة، من الكتلة الديمقراطية وتنسيقية القوى الوطنية، إلى تحالفات الحراك الوطني، وأحزاب الأمة والاتحاديين بمختلف تياراتهم، إلى جانب حركات الكفاح المسلح، هذا التنوع يمنح اللقاء أهمية خاصة، فهو لا يعبر عن تيار بعينه بقدر ما يعكس إرادة وطنية تبحث عن قاسم مشترك يلمّ شتات القوى السياسية بعد غيابٍ طويل عن دائرة الفعل.
ولعل القيمة الحقيقية لاجتماع بورتسودان تكمن في أنه جاء في لحظة فراغ سياسي حقيقي، حين بدت الساحة محتاجة إلى جهة مدنية توازي الجهد العسكري في الميدان، وتعيد التوازن لمعادلة الوطن.،فإذا استطاعت القوى السياسية أن تتجاوز حساباتها الصغيرة، وتتحاور على قاعدة المصلحة الوطنية، فسيكون هذا اللقاء نقطة تحول في مسار السياسة السودانية الحديثة، لا مجرد حدث عابر في دفتر الاجتماعات، فالتجربة أثبتت أن غياب السياسة لا يملؤه سوى الفوضى، وأن فراغ القرار لا يُنتج إلا مزيدًا من الانقسام.
إن هذا الاجتماع بما حمل من نَفَسٍ وطني وروحٍ توافقية، يمثل بارقة أمل في أن تستعيد السياسة دورها الطبيعي، فالمطلوب من القوى السياسية اليوم كثير: أن ترتب صفوفها، وتستعيد ثقة الناس بها، وأن تعود إلى موقعها كصاحبة رأي ومبادرة، لا كشاهدةٍ على الأحداث،لقد آن للسياسة أن تعود إلى الطاولة، وللأحزاب أن تتقدم الصفوف، وللوطن أن يسمع صوته من داخله، لا من خارج حدوده. فبورتسودان قد تكون بداية طريقٍ جديد إذا خلصت النيات، وتقدمت المصلحة الوطنية على كل ما سواها.