للحقيقة لسان .. رحمة عبد المنعم يكتب : وداع إيلا.. غاب الجسد وبقيت الحكاية

يموت بعض الناس فيُعلن الحزن عن نفسه، كأن الأرض انكسرت في مكانٍ ما، وكأن الوطن فقد قلبه.. صباح الإثنين، في القاهرة، رحل الدكتور محمد طاهر إيلا، رئيس وزراء السودان الأسبق، رجلٌ لم يكن يملأ المناصب بقدر ما كان يمنحها المعنى،رحل كما يرحل الكبار، في صمتٍ يوجع أكثر من العويل، وترك خلفه وطناً يتفقد أثره في الطرق التي شقها، وفي الموانئ التي أعاد نبضها، وفي المدن التي جعلها تحلم…

في لمسة وفاءٍ إنسانية نبيلة، وجّه رئيس مجلس السيادة الفريق أول ركن عبدالفتاح البرهان بنقل جثمانه بطائرةٍ خاصة إلى بورتسودان، المدينة التي عشقها كما يعشق المرء طفولته الأولى، ليدفن فيها بين البحر والرمل، حيث بدأ كل شيء، كم يشبه هذا الوداع قدراً يعيد البطل إلى مسرح بدايته، كأن الحياة أبت إلا أن تُكمل روايتها في الصفحة الأخيرة من المكان الأول.

أتذكر جيداً حين أصبح إيلا والياً على الجزيرة، وكنتُ قد كتبت إليه عبر صحيفة الرأي العام الغراء، أرجوه أن يشيد الطريق الذي يربط قريتي الحبيبة بشارع مدني،كان ذلك الطريق حلماً جميلاً ينام على هامش الخرائط منذ سنين، لا يجرؤ أحد على إيقاظه، لكن إيلا، بعين المسؤول الذي يرى في التفاصيل قداسة، قرأ الرسالة وفهم ما وراءها، فاستجاب،لم تمضِ سوى أشهر حتى صار الطريق واقعاً، رأيت الحلم الذي كتبته بالحبر يتحول إلى واقعٍ من الإسفلت، وتحوّلت العزلة إلى عبور، والعزائم إلى حياة، يومها كتبت في صحيفة الوطن أقول: “شكرًا إيلا”،لأنك جعلت الطريق لغة صدق بين المسؤول والصحفي، وجعلت الكلمة جسراً يعبر من الورق إلى الواقع.

كان إيلا يشبه الأبطال الذين تكتب عنهم الروايات، أولئك الذين لا يرفعون أصواتهم، بل يتركون العالم يتحدث عنهم، كان رجل أفعالٍ لا أقوال، يمضي بخطواتٍ هادئة، لكنه يترك في كل أرضٍ يمر بها أثراً لا يُمحى،

في البحر الأحمر، جعل من بورتسودان مدينةً تتنفس الأمل، فتحها على البحر والسياحة والحياة، وزيّنها بالمهرجانات والأنوار حتى صارت وجه السودان المشرق،كان يعرف أن التنمية ليست إسمنتاً وحديداً، بل روحاً تُبث في المكان. وحين ذهب إلى الجزيرة، حمل معه ذات الحلم الكبير، بأن تكون الولاية قلب الإنتاج، ومزرعة الوطن الكبرى. كان يرى في الحقول مستقبل البلاد، وفي الناس طاقة الحياة.

إيلا لم يكن مجرد إداريٍّ ناجح، بل حالة وطنية نادرة، جمع بين الانضباط والحلم، بين الجدية والإنسانية، بين الحزم والابتسامة. لذلك أحبه الناس دون أن يطلب منهم ذلك، واحترموه حتى وهم يختلفون معه.

ورحل إيلا… كما ترحل القامات التي لا تتكرر، بصمتٍ يشبه الكبرياء، تاركاً فينا شعوراً باليُتم الإداري، كأن السودان فقد أحد الذين يعرفون كيف يُدار الوطن بالعقل والقلب معاً، رحل الرجل الذي جعل من كل ولاية تولّاها حكاية نجاحٍ تُروى، ومن كل مشروعٍ ينجزه جسراً نحو الغد، رحل قبل أن يقول وداعه، لكنه ترك في الميناء طريقاً، وفي الجزيرة حقلاً، وفي قلوبنا حنيناً لرجلٍ علّمنا أن الوطنية ليست شعاراً، بل سلوكاً يومياً.

سلامٌ عليه في مثواه الأخير بـبورتسودان، حيث ترقد الآن ذاكرة البحر ورائحة الجهد والوفاء،سلامٌ عليه وهو يغادر الدنيا كما عاشها… كبيراً، نبيلاً، صادقاً، وعاشقاً لهذا الوطن حتى آخر نبضة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.