هل توقفت يومًا لتتأمل سر الهزائم المتكررة التي تُلاحق فرقنا العلمية والرياضية في المنافسات العالمية؟ لماذا يغيب اسمنا عن قوائم التتويج؟ ولماذا نظل دائمًا في ذيل الترتيب، بينما يتصدر الآخرون منصات الفوز؟
لماذا يُرفع نشيدهم الوطني في ساحات التتويج، بينما لا يتجاوز نشيدنا طابور الصباح المدرسي؟
ولماذا تُوزع جوائز نوبل كما لو كانت ميراثًا حصريًا لهم، أما نحن فحظنا منها البقايا والفتات؟
تتوالى الأسئلة بلا توقف، إلا أن الإجابة – عندما تُكشف – تشرح كل الهزائم وتفتح بابًا للعلاج من مرض طال أمده.
كثيرًا ما يكون الجواب السريع لدى الكثيرين هو الفارق في الإمكانيات، التدريب، والإعداد، وغيرها من الأسباب… وهذه إجابة شائعة، لكنها في حقيقتها مضللة وخطيرة.
خطيرة لأنها تصرفنا عن موضع الداء الحقيقي، وتدفعنا لمعالجة الأعراض دون تشخيص الجذور.
فالخطأ في التشخيص يجعل كل دواء بلا جدوى، كما هو معلوم.
وإذا تجاوزنا هذه الإجابة، وطرحنا السؤال مجددًا: ما السبب إذن؟
فغالبًا ما تكون الإمكانات متقاربة، وأحيانًا نمتلك تمويلًا وتجهيزًا ومواهب تفوق منافسينا.
الكرة نفسها، الملعب نفسه، المدرب قد يكون من نفس المدرسة، وعدد اللاعبين متساوٍ، وأعمارهم متقاربة… إذًا، أين الخلل؟
الخلل يكمن في غياب الموهبة الفطرية.
وأكرر: الموهبة الفطرية الأصيلة، لا المزيفة ولا المتوهمة.
فليس كل من لكم بيده داخل الحلبة يملك قبضة كلاي، ولا كل من ركل الكرة يملك قدم زيدان،
فالأدوات متشابهة ، اليد هي اليد، والقدم هي القدم، لكن الفارق في الموهبة، في البصمة التي لا تُستنسخ، وفي النفس الذي لا يُقلد.
الموهبة الفطرية تُولد مؤهلة للتتويج، ولا تحتاج سوى قدر يسير من الصقل والرعاية، وهي متوفرة بيننا وبكثرة، إذ لا يعقل أن تخلو هذه الملايين من المختلفين والنابغين، ومع ذلك فشلنا في اكتشافهم ، لأنّ منظار الاكتشاف عندنا معطوب، لا يلتقط إلا الزائف.
فاخترنا الزائف وأقصينا الأصيل، فانهالت علينا الهزائم، وحلّ الفشل، ودامت التراجعات.
وحين تغيب الدقة في الاختيار، تبقى العلة موجودة، ويستمر السقوط.
وهنا بيت القصيد:
لن تُثمر الخطط التدريبية في غياب الأقدام الموهوبة، ولن تصنع ملايين التدريب نجمًا إذا كانت الخامة ضعيفة منذ البداية.
نحن نفتقر إلى العين الفاحصة والمنظار الصحيح.
منظارنا مغطى بسحب المجاملة، والشللية، والانبهار بالمظاهر الخادعة.
نُخدع بمن يجيد الظهور والتحدث، ويتقن التملّق.
وأحيانًا تتدخل شبكات التسويق والسمسرة لتروّج لمواهب مزيفة وتقصي الحقيقية.
في الغرب، المشهد مختلف.
عينهم فاحصة، موضوعية، علمية، لا تعرف المجاملة ولا الانحياز.
يستخرجون المواهب من الأحياء الفقيرة، من الأزقة الضيقة، ومن البيئات المهمشة، ومن طفل حافي القدمين.
فلا عجب أن تجد سيرتهم تبدأ بعبارات مثل: “نشأ في أسرة معدمة فقيرة، وقاسى شظف الطفولة، لكنه اليوم بطل العالم”، لأنهم امتلكوا عينًا تبصر، ونظامًا يكشف ويبرز، ولو نشأ بيننا، لظل مجهولًا على الهامش، لا تنصفه الأضواء، ولا تمنحه الفرص.
لذلك ترى أبطالهم يتربعون على القمم لسنوات، بثبات وتميّز وتفوّق، لأن الاختيار كان موفقًا والموهبة أصيلة.
أما نحن، فتتصدر مشاهدنا النماذج الضعيفة في كل مجال، من الرياضة إلى الإدارة، ومن التعليم إلى الإعلام.
وحين يُهزم الفريق، يُلقى اللوم على المدرب، ويُستبدل بآخر، فتتكرر الهزيمة، ويأتي الثالث والرابع والهزائم مستمرة، لأننا ما تعمّقنا في الأسباب الحقيقية التي تقف وراء هذا الفشل المستمر.
فماذا يفعل أعظم المدربين في العالم إذا كانت الأقدام تفتقر إلى الموهبة، والساق تخلو من الحس الفني؟
فنكرر ذات الأخطاء ونتوقع نتائج مختلفة!
ولا يفوتني التنويه إلى أمر مهم:
لم نذكر كرة القدم لأنها قضيتنا، ولا لأن الرياضة تمثل مشكلتنا بالكامل،
بل اخترنا هذا المثال لأنه الأقرب فهمًا والأوضح صورة، ولأنه يختصر المشهد العام بجلاء.
لكن الرسالة التي نسعى لإيصالها أعمق وأوسع:
الموهبة الحقيقية هي من يصنع الفرق، لا المزيفة المصطنعة.
وأعيننا التي نختار بها اليوم مريضة، مضللة، وتحتاج إلى علاج عاجل.
وما يحدث في الملاعب ليس سوى مرآة لما يجري في كل قطاعاتنا.
المشكلة أعمق، نحن نسيء اختيار من نمنحهم الثقة، لأننا نبحث في المكان الخطأ وبالأدوات الخطأ، ونسند المهام إلى من لا يمتلكون الموهبة أو الاستعداد.
لقد وضعنا جهدنا في غير موضعه، فصرفنا 90% من طاقتنا على التدريب والصقل، وتركنا 10% فقط للاكتشاف والاختيار.
والعكس هو الصحيح: فإذا وُجدت الموهبة الحقيقية، فإن 90% من الطريق قد قُطعت، ولا يبقى سوى تطويرها واحتضانها، وهو الجزء الأقل تكلفة والأسرع نتيجة.
أما إذا عكسنا الترتيب ، فسوف نزرع في أرضٍ قاحلة، وننتظر حصادًا من رمال، وهذا أمر مستحيل.
ولهذا يبدع بعض الموهوبين حين يغادرون أوطانهم، ويُكتشفون ويُكرّمون في الخارج، بينما لو بقوا بيننا، لبقوا يبحثون عن لقمة العيش
أو يقفون في طوابير الانتظار يتلمسون بابًا يسد جوعهم ويصونك كرامتهم.
لقد آن الأوان للتغيير، آن أن نعيد الاعتبار لفن الاكتشاف، وأن نُطوّر أدوات الرؤية، وننقّي معايير التقييم، ونبحث عن المختلف بصدق والموهبة الأصيلة.
وإلا، فسنظل نهدر طاقاتنا، ونستهلك مواردنا، في غير محلها ، ونسير في الاتجاه المعاكس.
والسؤال الآن، بعد وضوح الصورة: هل عرفت لماذا نخسر في كل مضمار؟
وهل أدركت أن أولى خطوات النهوض تبدأ من لحظة اكتشاف صادق للموهبة الفطرية؟