كتب : مُوسَى دَاوُد
فِي سِجِلِّ المَلَاحِمِ السُّودَانِيَّةِ تَتَلَأْلَأُ أَسْمَاءٌ خَطَّتْهَا الكَرَامَةُ فِي صَخْرِ الذَّاكِرَةِ، وَمِنْ بَيْنِهَا يَتَوَهَّجُ ٱسْمُ العَمِّ عَوَضٍ، ذٰلِكَ الجُنْدِيُّ الَّذِي ٱخْتَزَلَ فِي سِيرَتِهِ شَرَفَ الجُنْدِيَّةِ وَمَجْدَ الأُمَّةِ وَعَبَقَ البُطُولَةِ، فَلَمْ يَكُنْ مُجَرَّدَ مُقَاتِلٍ فِي صُفُوفِ القُوَّاتِ البِرِيطَانِيَّةِ إبَّانَ الحَرْبِ العَالَمِيَّةِ الثَّانِيَةِ، بَلْ كَانَ وَجْدَانًا نَابِضًا بِالعُرُوبَةِ، وَرُوحًا مُشْرِقَةً بِالعِزَّةِ، وَضَمِيرًا يَأْبَى المُسَاوَمَةَ عَلَى الحَقِّ وَالعِرْضِ، وَفِي لَحْظَةٍ فَاصِلَةٍ مِّنَ التَّارِيخِ، حِينَ ٱنْتَهَكَ أَحَدُ الجُنُودِ البِرِيطَانِيِّينَ شَرَفَ فَتَاةٍ لِيبِيَّةٍ بَرِيئَةٍ، ٱنْتَفَضَ العَمُّ عَوَضٌ كَالسَّيْفِ المَسْلُولِ، فَلَمْ يَتَرَدَّدْ، وَلَمْ يَحْسِبْ خُطُوَاتِهِ، ٱنْقَضَّ عَلَى ٱلْمُعْتَدِي وَأَرْدَاهُ قَتِيلًا، ثُمَّ وَقَفَ أَمَامَ المَحْكَمَةِ شَامِخًا كَالنَّخِيلِ، ثَابِتًا كَالجَبَلِ، وَقَالَ لِلْقَاضِي بِمِلْءِ الفَخْرِ: “شَرَفُ الجُنْدِيَّةِ لَا يَقْبَلُ ٱلاِعْتِدَاءَ عَلَى أَعْرَاضِ النَّاسِ، تِلْكَ ٱمْرَأَةٌ عَرَبِيَّةٌ، إِفْرِيقِيَّةٌ، مُسْلِمَةٌ، وَأَنَا كَذٰلِكَ: سُودَانِيٌّ، إِفْرِيقِيٌّ، مُسْلِمٌ”، وَبِهٰذِهِ الكَلِمَاتِ الَّتِي تَنْزِفُ شَرَفًا، خَطَّ العَمُّ عَوَضٌ صَفْحَةً لَا تَمْحُوهَا الأَيَّامُ مِنْ سِجِلِّ الكِبْرِيَاءِ العَرَبِيِّ وَالإِفْرِيقِيِّ، وَظَلَّ حَتَّى آخِرِ أَنْفَاسِهِ يَرْوِي تِلْكَ الوَاقِعَةَ بِفَخْرٍ وَٱعْتِزَازٍ، وَيُعَلِّمُ مَنْ حَوْلَهُ أَنَّ المَوْتَ فِي سَبِيلِ الكَرَامَةِ أَهْوَنُ مِنْ حَيَاةٍ فِي الذُّلِّ، وَقَدِ ٱلْتَحَقَ بِقُوَّاتِ “الهَجَّانَةِ”، فَكَانَ فِي طَلِيعَةِ مَنْ لَبِسُوا زِيَّهَا، وَحَمَلُوا عَلَى أَكْتَافِهِمْ هَمَّ الوَطَنِ، وَعَبَرَ سَبْعَةَ رُؤَسَاءِ سُودَانِيِّينَ، وَشَهِدَ أَزْمِنَةً مُتَبَدِّلَةً، ظَلَّ فِيهَا الوَفَاءُ لِلرَّايَةِ السُّودَانِيَّةِ نِبْرَاسًا لَا يَخْبُو، قَاتَلَ فِي لِيبْيَا لَا طَمَعًا، بَلْ دِفَاعًا عَنِ الأَعْرَاضِ، وَوُقُوفًا عَلَى تُخُومِ الشَّرَفِ، وَفِي مَشْهَدٍ كَالْكَبُوسِ، يَظْهَرُ خَلِيفَةُ حَفْتَرَ فَيَعْتَدِي عَلَى مِثْلَّثِ عُوَيْنَاتِ السُّودَانِيَّةِ، فِي عُدْوَانٍ سَافِرٍ يَخْرِقُ كُلَّ مَوَاثِيقِ القَانُونِ وَمَعَاهِدَاتِ الجِوَارِ، وَيُحَاوِلُ أَنْ يُنْعِشَ جَسَدًا مَيِّتًا يُسَمَّى “الدَّعْمَ السَّرِيعَ”، تِلْكَ المِلِيشْيَا الَّتِي أَذَلَّهَا الشَّعْبُ السُّودَانِيُّ فِي مَيَادِينِ الشَّرَفِ، لٰكِنَّ حَفْتَرَ الَّذِي أَعْمَتْهُ أَوْهَامُ القُوَّةِ غَفِلَ أَنَّ السُّودَانَ لَيْسَ سَاحَةً مُبَاحَةً، وَأَنَّ السُّودَانِيِّينَ لَا يَرْكَعُونَ إِلَّا لِلَّهِ، وَلَا يُهْدَرُ شَرَفُهُمْ وَلَا يُسَاوَمُ، وَأَنَّ مَنْ جُبِلَ عَلَى الكِبْرِيَاءِ لَا يُرْهِبُهُ التَّهْدِيدُ وَلَا يُقْنِعُهُ التَّنَازُلُ، وَنَسِيَ الجِيرَانُ أَنَّ السُّودَانَ كَانَ السَّنَدَ وَالْمَأْوَى وَالمُعَلِّمَ، احْتَضَنَ أَبْنَاءَهُمْ، وَفَتَحَ حُدُودَهُ، وَقَاسَمَهُمْ اللُّقْمَةَ وَالمَأْوَى، مِنْ لِيبْيَا إِلَى إِثْيُوبِيَا، وَمِنْ تِشَادَ إِلَى الإِمَارَاتِ، لَمْ يُخْذِلْ أَحَدًا، وَيُقَابَلُ الْيَوْمَ ذٰلِكَ السَّخَاءُ بِطَعَنَاتٍ فِي الظَّهْرِ كَمَا فَعَلَ حَفْتَرُ وَمَنْ تَآمَرَ مَعَهُ، وَمِنْ هُنَا يُصْبِحُ لَازِمًا عَلَى الدَّوْلَةِ السُّودَانِيَّةِ أَنْ تُرَاجِعَ بُوصَلَتَهَا السِّيَاسِيَّةَ، وَأَنْ تُعِيدَ النَّظَرَ فِي خَارِطَةِ عَلَاقَاتِهَا الإِقْلِيمِيَّةِ وِفْقَ مَعَادَلَةٍ تَصُونُ الكَرَامَةَ وَتَسْتَوْعِبُ دُرُوسَ التَّارِيخِ، فَمِثْلَّثُ عُوَيْنَاتَ لَيْسَ تُرَابًا مَنْسِيًّا، بَلْ نَبْضٌ مِنْ نُبُوضِ السِّيَادَةِ، وَجُزْءٌ لَا يَتَجَزَّأُ مِنْ جَسَدِ الوَطَنِ، وَالٱعْتِدَاءُ عَلَيْهِ طَعْنٌ مُبَاشِرٌ فِي كَرَامَةِ الشَّعْبِ السُّودَانِيِّ الَّذِي، عَلَى الرَّغْمِ مِنَ الجِرَاحِ وَالمِحَنِ، ظَلَّ وَاقِفًا، صَامِدًا، يَلْتَفُّ حَوْلَ قُوَّاتِهِ المُسَلَّحَةِ، يَرَى فِي حِمَايَةِ الأَرْضِ مَسْأَلَةَ حَيَاةٍ أَوْ مَوْتٍ، وَفِي الدِّفَاعِ عَنْهَا رِسَالَةً مُقَدَّسَةً، فَالجُنْدِيُّ السُّودَانِيُّ لَيْسَ وَظِيفَةً بَلْ قَسَمٌ يُعْقَدُ فِي أَعْمَاقِ الرُّوحِ، وَرَايَةٌ تُرْفَعُ عَلَى أَعْمِدَةِ الكِبْرِيَاءِ، جُنْدِيُّ السُّودَانِ لَا يُمَثِّلُ ذَاتَهُ، بَلْ يُجَسِّدُ أُمَّةً بِأَكْمَلِهَا، وَيَمْشِي عَلَى خُطَى أَبْطَالٍ كَالعَمِّ عَوَضٍ، الَّذِينَ عَلَّمُونَا أَنَّ الشَّرَفَ لَيْسَ كَلِمَةً تُقَالُ، بَلْ مَوْقِفٌ يُخْتَبَرُ، وَسَيَبْقَى السُّودَانُ حُرًّا، عَزِيزًا، شَامِخًا كَجِبَالِ الشَّرْقِ، لَا يَعْرِفُ المَهَانَةَ، وَلَا يُسَاوِمُ عَلَى السِّيَادَةِ، وَمَنْ أَرَادَ ٱخْتِبَارَهُ، فَلْيَقْرَأْ سِيَرَ أَبْطَالِهِ، وَلْيَرَ كَيْفَ تُولَدُ الأُمَمُ العَظِيمَةُ مِنْ رَمَادِ التَّضْحِيَةِ وَنُورِ الكَرَامَةِ.