الخرطوم : أيمن كونتا
الواثق صباح الخير شبّ وترعرع بضاحية الشعبية بالعاصمة الثالثة (الخرطوم بحري) على أيام العهد المايوي، عندما كان الرئيس الأسبق نميري في سدة الحكم، اتّسم الواثق وتفرّد على أقرانه مِن مَن عاصروه في تلك الحقبة الزمنية من أبناء منطقته ومعارفه بصفات أقل ما يمكن أن نصفه بها أنه كان ودوداً ومحباً للمساعدة، متفاعلاً في المجتمع المحيط حوله في فعاليات الأفراح والأتراح بشهادة كل من يعرف الواثق.
لم يلقَ حظه في التعليم وسريعاً ما إتّجه الى كسب رزقه بالعمل الحر.. عمل مراسلة في مصلحة الوابورات وهي نفس المؤسسة التي كان يعمل بها والده، لم يستمر ويعمر في هذه الوظيفة، إنضم للعمل في احدى المؤسسات العسكرية.. أيضاً لم يدم ذلك طويلاً، فقد أُصدر قراراً بفصله من العمل إثر خلاف نشب مع أحد المسئولين الأقدم منه، بعدها تنقّل في عدة أعمال، غير إن جلها لم يكتب لها الإستمرارية.
مضت به الأيام، وعندما شارف على العقد الثاني من ربيع عمره تمحورت شخصيته بسلوكيات وتصرفات لم يعهدها فيه أقرب المحيطين حوله بعادة غريبة كان يقفز ليلاً بيوت الأغنياء ويسرق ما تيسّر له وبحلول الصباح يكون قد وزّعها على الفقراء في حي الشعبية وخارجها.
وسع نشاطه وإتّجه بعدها خارج الشعبية في كل من الخرطوم وأمدرمان وضواحيها، بعد عامين فقط اشتهر في كل أنحاء السودان ــ الرجل الذي يسرق الأغنياء والحكومة ليوزعها على المحتاجين.
شهرة الواثق قادت الى القبض عليه عدة مرات، ثم قادته فيما بعد الى محاكمة مشهورة وسريعة انتهت باعدامه في نفس اليوم الذي أعدم فيه محمود محمد طه الجمهوري، ليضيع خبر إعدامه في معمعمة إعدام محمود طه زعيم الجمهوريين المشهور.. السؤال، هل كان لصاً كـ(روبن هود).. أم قاطع طرق.. علماً بأن خصاله تبتعد عن اللصوص التقليديين الذين يسرقون عشوائياً؟.
الواثق وجد فراغاً إجتماعياً ملأه على طريقته الخاصة.. ونميري طوى صفحته سريعاً، وحياته كانت قصيرة، فقد أُعدم ظلماً وهو في الـ(22) من عمره.
ما بين ميلاده في بداية ستينيات القرن الماضي وإعدامه وصلبه في نهاية عام 1984م إلا أن ما اكتنف حياته من غموض وحكاوي تكاد تقارب الأساطير يجعل التنقيب في حياة (المشنوق المصلوب) الواثق صباح الخير والتي لم تجد نصيبها من التوثيق.. رغم أنه ملأ الدنيا وشغل الناس حيناً من الدهر.
جيء بالواثق صباح الخير للمحاكمة والتي سبقتها حملة إعلامية غير مسبوقة تبشر المواطنين بالقبض على أخطر مجرم في تاريخ السودان.. وتهييء الرأي العام مسبقاً لحتمية إعدامه وصلبه.
كانت محاكمة اهتاجت فيها العواطف لحد كبير وألقت الأساطير التي نسجت حول الواثق واشتط فيها الناس حينذاك بظلالها عليها لحد كبير.. فأصبحت زخماً إعلامياً.. أكثر منها محكمة عدل وقانون.. جيء به مقيد اليدين والقدمين مرفوقاً بقوة ضاربة من الحرس.. كان ذلك بتاريخ 13/6/1984، حيث قدم وكيل نيابة الطواريء الى تلك المحكمة أربعة بلاغات من ضمنها بلاغ مدون بمدينة الخرطوم بحري والذي ذكر فيه الشاهد أن ثلاثة أشخاص (تعرف منهم على الواثق و حسن أبوعنجة)، قد نهبوه مبلغ 14 ألف جنيه.. و75 قرشاً.. وذلك بعد أن قيّدوه تحت تهديد السلاح..
وتمت إدانة الواثق صباح الخير تحت المادة 334 عقوبات.. إلا أن المحكمة لم توقع عليه أي عقوبة.. لعلمها أن الجريمة كانت قد وقعت في ظل قانون العقوبات الملغي لسنة 1974م والذي كانت تقرأ مادته على أنه يحاكم في مثل هذه الجريمة باعتبارها سرقة عادية، حيث لم تتوافر فيها شروط حد الحرابة.
في غمرة الإندفاع المحموم للتنفيذ (الفوري) للحكم الصادر بحق الواثق صباح الخير القابع في زنزانة خرساء الجدران منتظراً مصيره المحتوم في مساء ذلك الخميس الصيفي.. كان لابد أن تغفل بعض التفاصيل اللازمة لإكمال تنفيذ الحكم.. مثل إجراء الكشف الطبي على المحكوم والتأكد من لياقته الصحية للتنفيذ.
أغفلت مثل هذه التفاصيل.. وتم اعتبارها غير ذات شأن غير أن المعضلة التي برزت في وجه السلطة المنفذة هي مسألة المصادقة على تنفيذ الحكم.. إذ يتعين في كل أحكام الإعدام أن ترفق مصادقة رئيس الجمهورية (أو من ينوب عنه) بتوقيعه.. ضمن محضر الإعدام.
كما يتعين أن تتلى هذه المصادقة على المحكوم عليه قبل تلقينه الشهادة وإعدامه.. وتقوم السلطة القضائية بندب قاضٍ لحضور التنفيذ وبطرفه هذه المصادقة.
ونسبة لغياب الرئيس الراحل (نميري) عن البلاد حينذاك، فقد كانت سلطة التصديق بيد من ينوب عنه، أما ما حدث في تلك الليلة هو تأخر مصادقة نائب النميري على الحكم حتى وقت متأخر جداً، ربما حتى الساعات الأولى من فجر الجمعة، وقد كانت هنالك مساع للاسترحام.
ذهب البعض عند تأخر نائب النميري في المصادقة على الحكم الى إرجاع هذا التأخير لصحوة ضمير ألمت به دفعته لرفض المصادقة.. وذهب البعض الآخر الى أنه (النائب) يود أن يرجيء التنفيذ حتى عودة النميري.. وقيامه شخصياً بالمصادقة على الحكم.. حتى لا يلقي النائب ربه ودم الواثق في عنقه.. فقد كان النائب صوفياً وعلى قدر من التدين (أو كما قيل).
المهم في الأمر أن سلطات السجون لم يعد باستطاعتها تنفيذ الحكم دون وجود قاض منتدب من الهيئة القضائية.. ومعه تصديق رئيس الجمهورية على الحكم.
وصادق النائب في وقت متأخر جداً من تلك الليلة، ثم وجدت سلطات السجون نفسها في مواجهة معضلة (فنية) لم تكن في حسبانها كان أن تبين فجأة لسلطات السجن أنه لا يوجد لديها (مصلبة)، فلم يسبق تنفيذ هكذا أحكام من قبل ولا يوجد في إرث السجون الحديث أي سابقة لتنفيذ أحكام بالصلب.. كما أن الحكم لم يفصل كيفية الصلب ومدته.
غير أن المعضلة الحقيقية لسلطات السجون في تلك الليلة وهي المنوط بها إعدام وصلب هذا القابع في زنزانته.. تلك الزنزانة ذات الجدران الخرساء.. كيفية توفير (مصلبة) يشد عليها جسد الواثق بعد إعدامه، وذلك في خلال مدة لا تزيد في أقصاها عن (٨) ساعات هي المتبقية من شروق يوم الجمعة التي كانت آخر ليلة له.
إضاءة:
لم تسجل للواثق صباح الخير حالة سفك دماء واحدة رغم خروجه عن القانون.. ورغم تفرده بكونه أول وآخر شخص يصلب في تاريخ السودان الحديث منذ استقلاله وحتى الآن