سودانية نيوز .
مولانا القاضي عوض الله صالح عليه الرحمة رجل فيه علمٌ وتُقى وظُرف، ولذلك كانت أحكامه وأحاديثه وبرامجه تسير بين الناس اعتدالاً وحكمة وقدوة. ويروى عنه أن العازة بت أدريس وهي إمرأة (شليقة) وسريعة الغضب ومتمردة في احتشام دخلت عليه يوماً وقد تملكها غضب وهياج وكانت دعواها باختصار أنها تريد الطلاق من بابكر ود العبيد، وألا ستحرق نفسها وأطفالها.
دخل معها الرجل الصالح في موعظة ونصيحة، ولكنها تأبت بإصرار، وعندما يئس من إقناعها أمر الحاجب بإدخال زوجها فوجدها (تنبح وتردح) بما قد سلف، وبالذي اختلقته (قطع أخدر). ودون أن يتركها تكمل مرافعتها الشريرة حتى النهائية، صاح في هدوء يحسد عليه: (يا مولانا من غير مطاولات أو شهود أو فضايح ما العازة دي؟ طلقانه بالتلاتة) وخرج لا يلوي على شئ، فكانت أقصر قضية طلاق في تاريخ القضاء الشرعي السوداني.
وحينما خرج الرجل المسكين حتى دخلت العازة في نوبة بكاء مرةٌ وحزينة تقطع نياط القلوب شاكية من تخليه عنها بهذا اليُسر والسهولة، وكانت تظُن نفسها غالية وقالت لشيخ عوض الله: (هسع أولاده ديل أنا اربيهم كيف؟ وانا لا عندي الوراي ولا القدامي). سادت لحظات من الصمت الموجع قطعها مولانا عوض الله مناديا على حاجب المحكمة، وقد أدخل يده في جيبه وأمره بشراء اثنين (منقد) جديدين (لنج) وجوال فحم، وما يكفي العازة من الشاي والقهوة والكركدي والحلبة لمدة شهر لزبائن المحكمة، وأن يوسع لها مكاناً معتبراً تحت شجرة المحكمة الظليلة. فأطلقت العازة زغرودة شقت سماء المحكمة كأنها لم تُطلق قبل دقائق. ويبدو أن العازة ذات يد طاعمة فقد تكاثف عليها الزبائن بل أن كل القضاة أصبحوا لا يتناولون أكواب الشاي والقهوة الا من يدها. وكانت العازة تجلس بجوار كتاب العرضحالات بالمحكمة وهم مجموعة أدنى من كتاب القصة القصيرة بقليل، وقد حذقوا كتابة قضايا الناس.
وللسودانيين نكتة شهيرة عن كاتب العرضحالات الذي دبج قضية لأحد المواطنين وقرأها عليه للتصحيح أو الإضافة فإذا بصاحب القضية ينخرط في موالِ بكاءٍ طويل ودموع غزار ولواعج وعبرات وقال في صوت متحشرج: والله أنني ما كنت أظن أني مظلوم لهذه الدرجة.
أغلب كتاب العرضحالات بحكم صنعة الكتابة كانوا ينتمون إلى أحزاب ذات صبغة أيدلوجية، فقد كان فيهم الأخواني والشيوعي والجمهوري والسلفي، وكانت تدور بينهم نقاشات لا يقطعها الا زبون متعجل أو صحن بوش كارب. وكانت العازة ترخي أذنها وسمعها للنقاشات الحارة بين مختلف المدارس التي يمثلها هؤلاء، ولأنها قطعت الدراسة في السنة الثانية ابتدائية فقد كانت النقاشات تستهويها شكلا ويتبقى القليل في عقلها فكراً.
وفي أحدى الايام دخلت على مولانا شيخ عوض الله بقهوة الصباح ولأن مزاجه كان رائقاً فقد أحبت أن تدخل معه في جدال من واقع استماعها لكتاب العرضحالات، قالت في اندفاع:
إنت يا مولانا اشمعنا نحن لينا النص في الميراث؟ الرجال ديل زايدين علينا في شنو؟ أصابت الدهشة والحيرة مولانا وعلم أن مثل هذه الحالات لا تنفع معها الإجابة الأكاديمية فقال لها زاجراً: انتِ يا العازة مالك ومال الميراث؟ انتِ بت عثمان صالح ولا بت أبو العلاء، كلها حبلين في الجروف وفيها سبعة بنات وتمانية أولاد، كمان مع الفَقُرْ يا العازة دايره تسوي ليك كُفُر؟ وضحكت العازة ولم تعاود معه النقاش مرة أخرى، وحملت (البمبر) بعيداً عن مثقفي العرضحالات.
ذكرتني حكاية العازة مطاعن قحط في الدين والشريعة والرسالة الثانية ووثيقة سيداو والعلمانية، وكلها أمور لا يجدي معها الحوار ولا الجدل الأكاديمي، حيث يحاصروننا بالغلاء والبلاء وارتفاع سعر الصرف والمقاطعة الدولية والعجز عن إعلان خطة للإصلاح الاقتصادي، إنها العازة الجديدة مع الفَقُرْ سوت ليها كُفُر.
التعليقات مغلقة.